عبدالوهاب بدرخان
لم يخطئ المفتي الجعفري الممتاز بقوله إن مقاربة البرنامج الساخر على "إل بي سي" للشيعة كانت "سخيفة جداً"، والأرجح أنها لم تضحك أو تسلِّ سوى السخفاء وحدهم، إذ ظهّرت على الشاشة طرائف موجودة في الواقع ويتداولها الناس وتشمل "لغات"، بالأحرى لهجات، المناطق (والطوائف) كافةً، من دون أن يكون هناك بالضرورة بعدٌ سياسي مؤكّد. فالبلد لا تزال فيه حرية تعبير شخصية على الأقلّ، حتى لو صعُبت يوماً بعد يوم ممارسة هذه الحرية في الإعلام، بفعل الترهيب الأمني وحملات الشحن والتشهير التي تشنّها جيوش الذباب الالكتروني.
لكن المفتي أخطأ حين بالغ في اعتبار أن طائفته مُسّت في "ثقلها ومقدساتها"، فلا هي هشّة وضعيفة الى هذا الحدّ، ولا الـ "سكتش" المفترض أنه "فكاهي" دخل في جدليات مذهبية، ثم ما العلاقة بين احتجاج على محتوى اعلامي لم يختلق شيئاً وبين تمنين اللبنانيين بأنهم "لولا الشيعة" لكان "داعش أكل لحومهم"- مع افتراض أن هذا ما حصل فعلاً وليس إدّعاءً- فاللبنانيون لم ينسوا تضحيات الجيش في المواجهة مع ذلك التنظيم الارهابي. وبمعزل عن ذلك، ألا يستحق التمايز عن "داعش" أن يُكتفى بالاحتجاجات المشروعة والشكاوى التي يتيحها القانون، بدلاً من الاعتداء على المحطة التلفزيونية بمتفجّرة (رمزية، تحذيرية...) استمراراً لمسلسل اعتداءات طاول العديد من المحطات بغية كمّ أفواه الإعلام ومصادرة حرية التعبير؟..
في أي حال، اعتاد اللبنانيون على مساحة للسخرية تُزعج وتُغضب هذا الفريق أو ذاك، ولم يسبق أن أنهت وجود أو أثّرت في نفوذ أي زعيم، على رغم ما قيل أحياناً من أن السخرية تجرح، لكن المجروح يكسب إذ يتعامل معها بأريحية و"كبر عقل" أو يعتبرها من الضرائب الحتمية على دوره في الحكم والسلطة، فكيف إذا كان الحاكم بأمره في بلد يعجّ بالولاءات الطائفية التي لا يستطيع إلغاءها أو تجاهلها. هناك سياسيون صبروا وتعالَوا على الافتراءات المبرمجة (غير الساخرة) لإعلام "الحزب الحاكم" ("حزب إيران/ حزب الله") ودسائسه وتدخّلاته في طوائفهم ومذاهبهم، ولم يردعه أخلاقياً كونهم يتعاملون معه بالسياسة ووفقاً للأعراف اللبنانية وليس بالسلاح والترهيب وفقاً للأعراف الإيرانية التي لا تتردد في الفتك بالشعب الإيراني قبل الشعوب الأخرى المستتبعة.
السياسة في لبنان ملوّثة بالوساوس الطائفية، وفيها الخطأ والصواب والكذب والصدق والتحايل والاجتهاد، ودائماً ما جرى تقويمها انطلاقاً من هذه الاعتبارات، بالجدّ أو بالهزل، أيّاً يكن "الشخص" المنخرط فيها. لكن، منذ نهب أموال الناس (من كل الطوائف) وانهيار الدولة والمؤسسات والاقتصاد والعملة، لم تعد هناك سياسة ولا معايير لها، بل أصبحت حياة اللبنانيين ومصائرهم ومستقبلهم خاضعة لعقلية "المافيا والميليشيا" كمنظومة حاكمة ترفض مجيء رئيس للجمهورية من خارجها ومشتبهٍ بأنه يمكن أن "يطعنها في ظهرها". كذلك، منذ تعطيل التحقيق في انفجار مرفأ بيروت، وكل تحقيق آخر من قبل ومن بعد، أصبحت السياسة في لبنان موجّهة خصوصاً وكليّاً الى تهديد القضاء وتضليله، للتغطية على الحقائق السوداء، وعلى الفساد المستمرّ والسرقات التي تزداد علنيةً... ومع عودة القاضي طارق البيطار الى تحريك ملف المرفأ يزداد الخطر على أمنه الشخصي، فهو لا يقدّم "سكتشاً" ساخراً وإنما يخوض بقوة القانون معركة على "منظومة النيترات" الساعية الى الإفلات من العقاب.
(عن صفحته - فايسبوك)