التطرّف الإسرائيلي مَن يضبطه؟

سياسة

تم النشر في 7 مارس 2023

عبدالوهاب بدرخان

هل بقي شيء من "اتفاق العقبة" بين الفلسطينيين والإسرائيليين؟ لم يتبرّع أحد في واشنطن والقاهرة وعمان بالإجابة، لأن الأحداث على الأرض، وبالأخص الهجوم الهمجي للمستوطنين على بلدة حوارة وسبع قرى مجاورة لها، صدمت الجميع وتجاوزت ما سمي "تفاهمات خفض التصعيد" في الضفة الغربية، كما أن الدعوات الى "محو حوارة" سبقت المبادرة الأميركية - العربية بأشواط وأفقدتها كل فاعلية. يتطلّب الوضع الفلسطيني إزاء حكومة المتطرّفين الإسرائيلية أكثر من مجرّد "هدنة" أو "تهدئة" موقتة. وفي الأساس، لم يكن متوقّعاً أن تحترم إسرائيل أي التزامات، بل إن مصادرها استبقت اجتماع العقبة بالقول إن ما توافق عليه حكومة بنيامين نتانياهو لن يصمد بضع ساعات، طالما أن المتطرّفين يجلسون في مقعد قيادتها، في الأمن كما في الاستيطان، ويتولّون "إدارة التوحّش" بعقلية "ما بعد داعشية".

لأسباب مختلفة’ لم يكن الإسرائيليون ولا الفلسطينيون يريدون هذا الاجتماع. لكن الضغط الأميركي أضطرّهم للحضور. قالت السلطة في رام الله أن ثمة "مصلحة فلسطينية"، ولم تشرْ إسرائيل الى أي "مصلحة" بل كان واضحاً أنها تسعى فقط الى تمرير شكلي لـ "تفاهمات" ألحّ عليها انطوني بلينكن مقابل انتزاع موافقة فلسطينية - عربية على سحب مشروع قرار في مجلس الأمن يدين الاستيطان ويطلب وقفه بشكل كامل. لعل السلطة الفلسطينية اعتبرت أنها لن تكسب شيئاً من قرار دولي آخر لن يُنفَّذ، لكنها قد تكسب من أي "تهدئة" يتولّى الاميركيون هندستها ويعطونها عنوان "تعزيز السلطة ووجودها في الضفة". وذُكر أن إدارة جو بايدن كانت "محرجة" بإشهار "الفيتو" لإسقاط القرار الدولي، لكنها لم تشأ أن تحذو حذو إدارة باراك أوباما التي امتنعت عن التصويت (أواخر 2016) لتمرير القرار 2334 الذي يطالب أيضاً بوقف الاستيطان.

بعد يومين على اتفاق مبدئي على "تفاهمات" تضمّنت تقليص اقتحامات المدن الفلسطينية، أكّدت قوات الاحتلال أنها غير معنية بما يقيّد حركتها فارتكبت "مجزرة نابلس" (11 قتيلاً غالبيتهم من المدنيين وأكثر من مئة جريح من المدنيين أيضاً). لكن واشنطن أصرّت على اجتماع العقبة وبرمجت لقاءً آخر في شرم الشيخ (منتصف آذار/ مارس) للمتابعة. عارضت الفصائل الفلسطينية، بما فيها تلك التي لا تموّلها إيران، الذهاب الى العقبة لأن الاجتماع يريد إلزام أجهزة السلطة بمطاردة المقاومين في نابلس وجنين وغيرهما والتضييق عليهم (عبر التنسيق الأمني مع إسرائيل) بعدما كسروا الجمود بتضحياتهم وباتوا يحظون بتعاطف شعبي كبير. لم تبالغ الأصوات التي حذّرت من "فتنة داخلية" في حال انخرطت السلطة في تنفيذ خطة الجنرال الأميركي مايك فينزل للتهدئة في الضفة. فهذه الخطة تستهدف "صفر مقاومة" في الضفة وليس واضحاً ما يمكن أن تحصّله السلطة في المقابل لتخفيف معاناة الفلسطينيين.

في البيان الصادر بعد "اجتماع العقبة" ورد أن الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي أكدا التزامهما العمل الفوري لوقف "الإجراءات أحادية الجانب" لمدة ثلاثة أشهر، على أن يشمل ذلك التزاماً إسرائيلياً بـ "وقف مناقشة إقامة أي وحدات استيطانية جديدة لمدة أربعة أشهر، ووقف إقرار أي بؤر استيطانية جديدة لمدة ستة شهور". لم يكن هناك أي نص معلن يتعلّق بالإجراءات الأمنية المطلوبة، خصوصاً من الجانب الإسرائيلي، باعتبار أن الاقتحامات العسكرية تحوّلت الى حملات قتل وتدمير، وشحنت البيئات الاجتماعية بالاحتقان والغليان. لكن البيان تضمّن فقرتين: الأولى تطمح الى طمأنة الأردن بالدعوة الى الحفاظ على الوضع التاريخي والقانوني في القدس من دون تغيير، لكن من دون الإشارة الى اقتحامات المستوطنين بحماية قوات الاحتلال وضرورة وقفها تجنّباً للاستفزازات. والثانية تلبي الحاحاً مصرياً وأردنياً بنصّها على "تعهّد الطرفين احياء الجهود للتوصّل الى عملية سياسية أكثر شمولية تقود الى تحقيق السلام العادل والدائم"، وهذا يعني أن تتخلّى إسرائيل عن سياسة تجاهل الشأن الفلسطيني التي درجت عليها حكوماتها منذ عقد ونيّف.

في أي حال، وخلال اجتماع العقبة، كان مسلّح فلسطيني قد هاجم مستوطنَين وقتلهما بالقرب من بلدة حوارة. وبعد انتهاء الاجتماع كان وزير الأمن ايتمار بن غفير يقرّر: "ما حصل في الأردن يبقى في الأردن"، كذلك زميله المشرف على الاستيطان بتسلئيل سموتريتش: "لن يكون هناك تجميد للبناء ولا لتوسيع المستوطنات، ولا ليوم واحد". وكان مثل هذا الكلام تحريضاً كافياً لإفلات المستوطنين ليفعلوا ما يشاؤون في حوارة. تصرّفوا كعصابة خارجة لتوّها من الغابة بمواكبة قوات الاحتلال. واشنطن قالت أن دعوة سموتريتش الى "محو حوارة" يثير "الاشمئزاز"، ومع أنها باتت واعية جيداً الخطورة السياسية والأمنية التي يمثّلها وجود متطرفين في حكومة إسرائيل، إلا أنها لا تبدو مهتمّة بتحديد أي سياسة ستتّبعها إزاءهم. لم يتردّد الاعلام الغربي في التحذير: فـ "عنف المستوطنين دليل الى ضرورة الحدّ من ممارسات حكومة المتطرّفين"، و"ما فعلوه في حوارة يشبه ما فعله النازيّون مع اليهود قبل الحرب العالمية الثانية" (الغارديان)، كما أن ساسة ومعلّقين إسرائيليين حذّروا من "تداعيات ما شبّهوه بأيام إبادة اليهود في المانيا النازيّة" (فايننشال تايمز).

لم يعد في إمكان الإدارة الأميركية أن تتجاهل واقع التطرّف الذي يقترب من "الحرب الأهلية" في إسرائيل لكنه انعكس سريعاً على الفلسطينيين من خلال أجندات حزبي "القوة اليهودية" (بن غفير) و"الصهيونية الدينية" (سموتريتش) لجعل حياة الفلسطينيين لا تطاق ودفعهم الى الرحيل "بالتنسيق مع الدول العربية وأوروبا". ينكر سموتريتش وجود الشعب الفلسطيني ولديه خطط معلنة لهدم المسجد الأقصى وبناء "الهيكل الثالث" على انقاضه "خلال سنوات" كما يقول، وهو يستند الى التوراة في اعتبار أن "مستقبل إسرائيل والقدس لن يقف عند ضفة النهر بل سيمتدّ الى الأردن ويتوسع الى دمشق". سموتريتش درس في مدرسة مركاز هراف الدينية التي تخرّج منها قادة اليمين الاستيطاني وضباط كبار في الجيش والاستخبارات، وثمة العديد منهم في الحزبين، وبعض منهم أعضاء في الكنيست.

في الأحداث الأخيرة علت أصوات كثيرة تتهم نتانياهو بأنه "ضعيف أم الإرهاب"، أي أن دعمه هجمات المستوطنين ليس كافياً. لكن بدا واضحاً أن واشنطن والحكومات الغربية متأخرة جداً في ادراك حقيقة التطرّف الإسرائيلي والاعتراف بخطورته على أي تسويات أو سلام أو حتى اتفاقات التطبيع. فبعدما تغاضت تلك الحكومات عن توسيع المستوطنات وهدم البيوت وتشريع العنصرية لقاء وظيفتها الاقليمية، لا تبدو قادرة الآن على ضبط إسرائيل المحكومة من المتطرّفين.

(عن صفحته - فايسبوك)