الأحلام لا تُزرع في الشرفات

متفرقات

تم النشر في 28 مارس 2023

تيما رضا

في وطن يتقن فن زرع الأحقاد الطائفية، في وطن لم تعد تجمعه المصيبة ولا الفرح، في وطن أعمى الحقد، شعباً وساسة، إلى حد أن أحداً منهم لم يعد يفرِّق بين الضحية والمُذنب.. أعيش وأحاول أن أربي ابنتي.

في وطن تحكمه حفلات الردح الفايسبوكية المواكبة لحفلات التجييش الإعلامية، التي باتت حقيقة مُرّة علينا أن نتعامل معها كلما وقعت مصيبة عند هذا الطرف أو ذاك.. أعيش وأحاول أن أربي ابنتي.

في وطن لم يسبق لسلطة أن أهانت شعبها كما سلطته، وتصر على قتل الناس ببطء، بعد إذلالهم، لا لشيء إلا لتثبيت صفقات مشبوهة على ظَهر الشعب.. أعيش وأحاول أن أربي ابنتي. في وطن يمعن في قتلنا وتدمير مستقبلنا وسلب أي أمل لنا.. أعيش وأحاول أن أربي ابنتي.

الغيمة التي عصفت في سماء بيروت في 4 آب 2020، الساعة 6 و7 دقائق، ما زالت تحتل حيزاً من حياة ابنتي التي كانت آنذاك في التاسعة من عمرها، وما زال بإمكانها أن تروي تفاصيل ذلك اليوم المأسوي، رغم أن الانفجار لم يكن في منطقتنا، وتردد أن دولتنا قتلتنا. أحداث الطيونة في 14 تشرين الأول 2021، ما زالت عالقة في ذهن ابنتي التي كانت في العاشرة من عمرها، وتردد كيف ركضوا من الملعب الى الصفوف ليحتموا من أزيز الرصاص. قطع الطرق، الإضرابات، حرق الإطارات، سعر صرف الدولار... مفردات في قاموس أطفال لم يتعدوا الثانية عشرة من العمر.

أشعر بالثقل، كلما نظرتُ إلى ابنتي تكبر، في بلد شبه مُعدم الأفق. أي طموح يمكن زرعه في بلد قاحل. يصعب زرع الأحلام في الشرفات. هذا جهاد السراب. فالأحلام بحاجة إلى أرض خصبة تنمو وتزدهر فيها، تكبر وتفرد جناحيها. الأحلام كالفراشات بحاجة للضوء كي تستعرض جمالها، ونحن نعيش في وطن قاتم، يسرق من الأطفال براءتهم وراحة بالهم.

الهمّ مُثقل كاهل الأهل ليس بتفصيل. لم يعد الأمر محصوراً في سعر صرف الدولار والقدرة على العيش الكريم، بل يتعداه ليصبح مسألة أمن وأمان. أبدو مرتبكة كأمّ، تكبر ابنتي ويكبر الخوف، يضيق الخناق الاقتصادي والاجتماعي، أيامنا محشوة بتفاصيل هي فعلياً بديهية.. لو كنا في حياة أخرى... في بلد آخر. المياه الساخنة المتوافرة بشكل دائم، علامة راحة غير متوافرة، ضمان نوعية الطعام رفاهية نسعى إليها، واكتشاف المواهب في قعر الاهتمامات، فالآن علينا أن نبقى على قيد الحياة، أن نمخر عباب الانهيار بخطى ثابتة.

أذكر جيداً كم تمنيتُ لو أن فترة إقامتها في رحمي طالت، إذ كنت اشعر أنها في أمان أكبر هناك، يوم بدأت طلائع حركة تحررها من حبل السرّة في أحشائي..

تحضر أمومتي في تفاصيل كل خبر أقرأه أو أكتبه، تارة أتخيل ابنتي تلك الطفلة التي تعزف الموسيقى الجميلة، أو العروس التي يسعى الجميع لتقصّي أخبارها، وفي أحيان أخرى آمل أن يغيّروا شكل ثوب التخرّج عندما يحين دورها. أتمنى أن تكون سيدة نفسها وخياراتها، وألا تكون رهينة مجتمع أو قانون يمنعها من العيش كما تحب ومع مَن تحب، وأن تكون تلك الشابة الناجحة بكل المعايير.. وطوراً أخاف عليها من كل الإشارات القاتمة لمستقبلنا. في كل طفل باكٍ، أرى دموعها، في كل طفل موجوع، أسمع صراخها.. أبكي، مرتين، أطفالاً يقضون في مآسي هذا البلد من تفجيرات وحوادث أمنية أو على أبواب المستشفيات. مرة للظلم الذي أودى بحياتهم، وأخرى خوفاً على ابنتي.

لم أكن يوماً من مناصري العنف، لكني لم أكن أخشى المواجهة. مع ابنتي، بتُّ أحبّذ الاستسلام، أياً كان الموقف، طالما أنه سيضمن لها أماناً أكبر. بات طرحي للحلول أكثر سذاجة. كل ما أريده حياة آمنة لها، ولمن هم مثلها.

(عن موقع "المدن")