عبدالوهاب بدرخان
في تطوّر مفاجئ اندلع قتال عنيف في السودان بين الجيش و"قوات الدعم السريع"، ويتأكد شيئاً فشيئاً أن جناح "الحركة الإسلامية" الاخوانية داخل الجيش هو الذي أطلق الشرارة الأولى، مستفيداً من تحرّكات للجيش ردّاً على تحشيد "الدعم" قواته في خطوة بدت مريبة ومشتبهاً بها، إذ كان الطرفان يخوضان مفاوضات وافقا مسبقاً على هدفها النهائي، أي دمج قواتهما في "جيش قومي موحّد"، واختلفا على آليات تطبيقه ومراحله الزمنية (سنتان تكفيان بالنسبة الى الجيش، أما "الدعم" فاقترح عشر سنين). واقعياً كانت هناك خلافات سياسية (ما العمل بالإسلاميين من فلول النظام السابق، الموجودين على مستوى قيادة الجيش) وشخصية (لمَن القيادة؟ للفريق أول عبد الفتاح البرهان أم للفريق أول محمد حمدان دقلو، المعروف بـ "حميدتي").
المنطق يقول إن الدمج يقضي بأن يستوعب الجيش "قوات الدعم" وليس العكس، لأنه الأكبر والأقدم ولأنه كان ولا يزال العنوان الأول للنظام والحكم والسلطة، أما "قوات الدعم" فليست سوى شريك أنشأه نظام عمر البشير وأضفى عليه شرعية وانتدبه للأعمال القذرة في سحق تمرّد الحركات المسلّحة في دارفور وأمره بقمع انتفاضة 2018 إلا أن "حميدتي" رفض، إذ أن "قوات الدعم" قويت وتوسّعت وتحوّلت رقماً صعباً في معادلة مراكز القوى في النظام، وبعد اطاحة البشير أصبح قائدها "الرجل الثاني" في مجلس السيادة وانخرط في علاقات داخلية خاصة تخترق مكوّنات المجتمع، وعلاقات خارجية مهمة امتزجت فيها السياسة بالتجارة وجعلت العديد من الدول تراهن عليه وتعتبره "رجُلها".
في اليوم الأول للقتال صنّف الجيش "قوات الدعم" كـ "ميليشيا متمرّدة". وفي اليوم الثاني أصدر قراراً بحلّها. كان الجيش التقط خلطاً وغموضاً في مواقف قوى داخلية وخارجية تعتبره وخصمه "طرفين" شبه متساويين وتدعوهما الى "وقف فوري للقتال والعودة الى الحوار"، لكن القتال انتج واقعاً جديداً: إمّا الجيش أو "الميليشيا". وأعلن الجيش في بيان أن "لا تفاوض ولا حلّ إلا بتفتيت "قوات الدعم""، فيما ظهرت بوادر اختلافات في تقويم الموقف بين الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة. أما الأهم فهو أن القتال طيّر الاتفاق السياسي الذي بني على مغادرة الجيش الحياة السياسية واعتراف بـ "دولة مدنية" تديرها "حكومة مدنية".
عشية الاقتتال كان السودان أيضاً عشية اجتراح "نموذج" لحلّ أزمة ازدواجية القوى المسلحة وتعدّدها، بدمجها وبالاحتكام الى "دولة مدنية". وهذا "النموذج" طُرح لبنانياً وسيُعاد طرحه في اطار البحث عن حلّ لمعضلة "حزب إيران/ حزب الله" الذي بدأ "ميليشيا" وصار "جيشاً"، علماً بأنه لم يشرعن ولم يُعترف له بأي صفة، ولا يزال سلاحه مصنّفاً "غير شرعي" في الداخل كما في الخارج. أما "الشرعية" الاعتبارية التي اكتسبها من مقاومته للعدو الإسرائيلي ومن تحريره للجنوب فبادر الى التفريط بها سواء بتوظيف سلاحه في الداخل اللبناني أو بمشاركته في "الجهاد الإيراني" في سوريا واليمن والعراق.
هناك فوارق كثيرة بين وضعَي البلدين، أهمها أن الجيش لم ينقلب في لبنان ولم يحكم أو يتحكّم، بل التزم دائماً دوره في الحفاظ على الدولة وأمنها. أما الميليشيا فليست معنية بالدولة ولا تمانع تفكيكها والمجازفة بها للحفاظ على سلاحها. لذلك فإن انهاء ازدواجية الجيش والميليشيا، السلاح الشرعي وغير الشرعي، يبقى استحقاقاً قائماً.
(عن صفحته - فايسبوك)