عبدالوهاب بدرخان
بين الواقع العربي الصعب والتمنيات الأكثر صعوبة، أرادت "قمة جدّة" القول إن هناك أملاً في مواجهة ما يبدو مستحيلاً. القمّة العربية في حدّ ذاتها، كالعادة، لا توفّر حلولاً جاهزة لأي نزاع أو أزمة، فجلّها إن لم يكن كلّها مرتبط بتدخّلات خارجية متعارضة، لكن القمم فرصة لتأكيد الرؤى العربية لما يجب أن يكون كي يكون هناك سلام واستقرار حقيقيان يحظيان بدعم العرب، شعوباً وحكومات، بمعزل عما تراه الأطراف غير العربية المتدخّلة لنشر نفوذها وتحقيق مصالحها.
أظهرت "قمة جدّة" أن ثمة مرحلة تحوّلات بدأت وباتت السعودية ودول الخليج عموماً تمثّل نموذجاً للانتقال باستقرارها الأمني ونمو اقتصاداتها الى بلورة نمط من التعاطي القائم على المصالح مع الدول الكبرى والدول الإقليمية، بعيداً عن الاستقطاب والتبعية. وإذ تردد كثيراً ذكر مبدأ "تصفير المشاكل" أو الأزمات فإنه يشير الى مسار طويل ونهج يراد له أن ينجح. في المقابل أظهرت القمة أيضاً النموذج الآخر من الدول التي شهدت انتفاضات شعبية على أنظمة مستبدة وفاشلة ولم تسعفها تحوّلاتها للانتقال من حكم سيطر عليه العسكريون عموماً الى دول مدنية ونموذج ديموقراطي أو أقرب الى الديموقراطي.
"اعلان جدّة"، كخلاصة لمداولات القمّة على مستوى الوزارات المختصّة قبل أن يقرّها القادة والرؤساء، جاء لافتاً بصيغته ولغته ولهجته السياسية وتركيزه على الاقتصاد والتنمية، وبدا قريباً جداً من التوجّهات التي يعبّر عنها ولي العهد السعودي، إذ تعطي الأولوية لما يفكّر فيه الجانب العربي وما يمكن أن ينجزه لمصلحة بلدانه. ولعل الرسالة الأهم في ذلك "الإعلان" تكمن في إعادة بناء المفاهيم والمبادئ العربية على أسس جديدة وعملية، لتكون هناك معانٍ معاشة وملموسة لـ "العمل العربي المشترك" و"المصير الواحد" و"توحيد الكلمة" و"التكاتف والتعاون في صون الأمن والاستقرار"، على سبيل المثال. وفي طليعة تلك الأسس الجديدة أن يُعاد الاعتبار الى "الدولة" بحماية سيادتها وتماسك مؤسساتها والحفاظ على منجزاتها بعدما تعرّضت عربياً لكثير من الانتهاكات سواء من جماعات الإرهاب أو الميليشيات التي قدّمت نفسها كجيوش موازية.
في أقلّ من عام استضافت السعودية قمماً خليجية- عربية عدة، أميركية مع الرئيس جو بايدن بعد شهور قليلة على اندلاع حرب أوكرانيا واحتدام الاستقطاب الدولي، ثم صينية مع الرئيس شي جين بينغ عشية اعلان بكين أن لديها أفكاراً لإنهاء تلك الحرب. في القمّتين، وبينهما قرار دول "أوبك +" (تضمّ روسيا) خفض الإنتاج النفطي بدلاً من رفعه (كما طلبت واشنطن)، كان هناك تدشين لسياسة جديدة، وكان تضامن خليجي وعربي مع السعودية في سعيها الى علاقات مصالح متوازية ومتوازنة مع الدول كافةً، فلا انحياز الى روسيا في غزوها أوكرانيا ولا انخراط في منافسات الدول الكبرى وصراعاتها. تبدي السعودية قدرة على خوض هذا المسار على صعوبته، بين الحفاظ على علاقة قوية مع الولايات المتحدة على رغم خلافات عارضة أحياناً، وعلاقة جيدة مع روسيا على رغم التصويت ضدها في الأمم المتحدة، وعلاقة استراتيجية مع الصين والأخذ برعايتها لاتفاق تطبيع العلاقات مع إيران على رغم الاستياء الاميركي. هذا التموقع السعودي مكّن الرياض من اختراق المصالح الكثيرة المتضاربة في السودان لتقود وساطة مع واشنطن، وربما يرشحها لوساطات أخرى. ثم ها هي تدعو الرئيس الاوكراني لحضور افتتاح "قمة جدّة" وهو في طريقه للمشاركة في قمة الدول الـ 7 في هيروشيما.
ثمة رسالة أخرى أطلقها الأمير محمد بن سلمان بتأكيده "للدول الصديقة في الشرق والغرب أننا ماضون في طريق السلام ولن نسمح بأن تتحوّل منطقتنا الى منطقة صراعات". وكانت كلمات القادة والرؤساء منسجمة عموماً مع الدلالات السياسية لهذه الرسالة، كذلك مع الجانب الآخر المتعلق بالتنمية كما عكسه "اعلان جدّة" في نصّه على أن "التنمية المستدامة والأمن والاستقرار والعيش بسلام حقوقٌ أصيلة للمواطن العربي". لم يسبق لأي قمة عربية أن أبرزت هذا التلازم بين هدفَيْ السلام والتنمية باعتباره نوعاً من أجندة للمرحلة المقبلة تصلح أساساً لحلول تدريجية للأزمات في البلدان العربية، وتصلح أيضاً لإدارة العلاقات مع دول الإقليم خصوصاً تركيا، في انتظار أن تجري إيران مراجعتها لأيديولوجيتها وسياساتها وتعاملها مع شعوب البلدان التي أقامت فيها مشاريع نفوذ. أما إسرائيل فإن متطرّفيها لا ينفكّون يبعدونها عن أي سلام حقيقي مع المنطقة.
في هذا السياق تحديداً جدّدت القمة تأكيد "مركزية" القضية الفلسطينية "لدولنا" باعتبارها "أحد العوامل الرئيسة للاستقرار في المنطقة"، لكن لم يُعلن عن أي تحرّك جديد لإنهاء الجمود المهيمن على هذا الملف، علماً بأنه جرى تداول معلومات عن مبادرةٍ ما "لإيجاد أفق سياسي" يحيي البحث في "حلّ الدولتين". غير أن انكفاء الإدارة الأميركية والتعنّت الإسرائيلي يحبطان مسبقاً أي تحرّك من الجانب العربي الذي يعيد التذكير بتمسّكه بـ "مبادرة السلام العربية" كوسيلة لضمان إقامة دولة فلسطينية مستقلة بحدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية. أشارت القمة الى ضرورة اضطلاع المجتمع الدولي بمسؤوليته في انهاء الاحتلال، لكن "مركزية القضية" تحتّم وجود دور عربي دائم في ما يسمّى "جهود السلام" التي باتت الاعتداءات الاسرائيلية تبدد مقوّماتها وتمنع أي حلول ممكنة أو ضمانات لحماية القدس ومقدّساتها.
على العكس، هناك دور عربي تقوده السعودية وترفده مصر ويريده طرفا الأزمة في السودان. إذ تُبذل جهود لرفع المعاناة عن الشعب السوداني، ولمنع انهيار مؤسسات الدولة والحؤول دون تدخل خارجي من شأنه أن يؤجج الصراع الداخلي ويهدد السلم والأمن الإقليميين. لكن يجب تسريع وتيرة الحوار لأن إطالة الحرب تنذر بكل المخاطر التي يراد تجنّبها. هناك أمل أيضاً بالنسبة الى اليمن، ويفترض ألا تتأخر مؤثرات التقارب السعودي- الإيراني فيه. أما بالنسبة الى سوريا فهناك رهان واختبار للنظام من خلال اعادته الى الجامعة العربية وفقاً لـ "خريطة طريق" تلزمه بالانخراط في حل الأزمة بمختلف جوانبها الإنسانية والسياسية. وأما الموقف العربي ازاء لبنان فهو واضح في أن إخراجه من أزمته يتوقف على قيام سياسييه بواجباتهم في انتظام عمل المؤسسات الدستورية وإقرار الإصلاحات المطلوبة.
لم يشر "اعلان جدّة" مباشرة الى الاتفاق السعودي- الإيراني، لكنه استعاد المبدأ الوحيد الوارد في نصّه وهو "وقف التدخّلات الخارجية في الشؤون الداخلية للدول"، وزاد عليه توضيحاً "الرفض التام لدعم تشكيل الجماعات والميليشيات المسلّحة الخارجة عن نطاق مؤسسات الدولة"... في السعي الى حلّ أي من الأزمات العربية، سيتكرّر كثيراً التحذير من هذه التدخلات، لكن وقفها يرتبط بفاعلية مبادرات عربية ممكنة ومطلوبة بإلحاح.
(عن صفحته - فايسبوك)